الببليوثيرابيا.. عندما يكون الكتاب “علاجًا” للنفس

عن حب الكتب والمنفعة في قراءتها والتدبر في معانيها أشار أدباء وعلماء عدة. من بينهم الجاحظ الذي  قال في الكتاب: ” الكتابُ هو الجليسُ الذي لا يُطريك، والصديقُ الذي لا يُغْرِيك، والرفيقُ الذي لا يَمَلُّكَ، والجارُ الذي لا يَسْتَبْطِئُكَ، والصاحبُ الذِي لا يُرِيدُ استخرَاجَ ما عندَك بالمَلَقِ، ولا يُعَامِلُك بالْمَكْرِ، ولا يَخْدَعُكَ بالنِّفَاقِ، ولا يَحتَالُ لكَ بالكَذِب.
الكتابُ نِعْمَ الأنيس ساعةَ الوحدةِ، وَنِعْمَ المعرِفةُ بِبلادِ الغُرْبَةِ، وَنِعْمَ القرِينُ والدَّخِيلُ، وَنِعْم الوزيرُ والنَّزِيلُ.
الكتابُ وعَاء مُلِئَ عِلْماً، وظَرْف حُشِيَ ظَرْفاً، وإنَاء شُحِنَ مِزَاحاً وَجِدًّا، إنْ شِئْتَ ضَحِكْتَ مِنْ نَوَادِرِهِ، وَإن شئت عَجِبْتَ من غَرائِبِ فرائِدِه، وإن شِئْتَ ألْهَتْكَ طَرَائِفُهُ، وإنْ شئت أشْجَتْك مَوَاعِظُه وبعد: فمتَى رأيت بُسْتَاناً يُحْمَلُ في رُدْن، وروضةً تُقَلُّ في حِجْرٍ ، ونَاطِقاً يَنْطِقُ عن الْمَوْتَى وَيُتَرْجِمُ عن الأحْيَاء؟ ومن لك بمؤنِس لا ينامُ إلا بِنَوْمِكَ، ولا يَنْطِقُ إلا بما تَهْوَى، آمَنُ مَنْ في الأرضِ وأكتم للسر مِنْ صَاحِبِ السر.”  فإن كان الكتاب يتمتع بكل هذه الصفات فهل من المُمكن أن يكون علاجًا للنفس أيضًا؟    

قد نسمع عن العلاج بالقراءة والعلاج بالكتابة والعلاج بالقصص وغيرها من أنواع العلاج التي يتم فيها استخدام النص الأدبي.. التي تندرج جميعها تحت علم الببليوثيرابيا. الذي يتكون من مصطلحين باللغة اليونانية وهما : “ببليون” وتعني كتاب، و”أوباتيد” بمعنى علاج (خليفة، 2000).   

الببليوثيرابيا هي عملية حيوية تؤدي إلى تفاعل بين شخصية القارئ والأدب تحت إشراف المُعالِج، وبكلمات أخرى هي علاج نفسي بواسطة النصوص الأدبية. ولكن يجب التنويه إلى أن الببليوثيرابيا هي أداة في العلاج النفسي، أي أن مجرد قراءة قصة أو كتابة مذكرات لا تعني بالضرورة “مُمارسة” الببليوثيرابيا بمفهومها العلمي اليوم.  

قد نتخيل بأنها من طرق العلاج الحديثة جدًا ولكنها فعليًا ظهرت في سنوات ال20، ولربما قبل ذلك ! حيث كانت تقتصر على  أُمناء المكتبات، الذين كانوا بطبيعة عملهم ينصحون الناس بكتب معينة بحسب ظروفهم ورغباتهم.. اما أول من استخدم مصطلح الببليوثرابيا فهو

Samuel McChord Crothers سنة 1916 عندما أدرك أن كتبه تساعد مرضاه في فهم مرضهم وما ينتج عنه، خصيصًا الأطفال منهم. اليوم الببيلوثرابيا هي أداة علاجية فعالة يستخدمها الكثير من الأخصائيين النفسيين والتربويين والإجتماعيين وغيرهم بوظائفهم المختلفة وتخصصاتهم المنوعة.  كما أنها بخلاف طرق علاج “تسويقية” أخرى مدعومة بأبحاث علمية مهنية تثبت نجاعتها في العلاج النفسي. Pehrsson & McMillen, 2005)) 

الببليوثرابيا هي طريقة علاج بواسطة النصوص الأدبية التي من الممكن أن تكون بالقراءة و/ أو الكتابة. فمن خلال النص (القصة) يستطيع المُتعالج أن يروي قصته الشخصية ومن خلال الحوار مع المُعالِج يمكنه اكتشاف مشاعره والوصول إلى وعي ذاتي يساعده في فهم ذاته وما يواجه من تحديات، أي أن دور المُعالج هو خلق حوار فعّال يستخدم فيه النص الأدبي لدعم المُتعالج في الوصول إلى الرواية(Narrative) الخاصة به، ويترتب عليه أيضًا اختيار النص الملائم (الكتاب / القصة) التي يجد في فحواه منفعة وإمكانية المساهمة في العلاج المرجو. اما كتابيا فدور المُعالِج هو في تشجيع المُتعالج على التعبير عن مشاعره وأفكاره كتابيًا ومن ثم جعلها مادة للحوار في الجلسات العلاجية، التي يختلف عددها وأسلوبها بحسب العلاج المقرر ونوع الحالة.    

من مُميزات الأدب أنه يساعد الإنسان في النمو ولا يضعه في قوالب وتصنيفات جاهزة تعرقل عملية فهمه لنفسه وتطوره الفكري، فللإبداع حيز كبير هنا، فليس هناك ما هو صحيح مطلق وخطأ مطلق ولا نهاية واحدة للقصة ولا طريقة واحدة في رواية القصص. كما أن القصص تنشأ وتطور كما الإنسان.       

يجدر بالذكر أن القدرات الكتابية وقدرات الإلقاء (الأساليب والقواعد اللغوية) ليست مُهمة للعلاج، أي أنه لا يتطلب مهارات خاصة، وكل شخص من الممكن أن يستعين به، كما أنها تلائم العلاج النفسي بأنواعه المختلفة. بالإضافة إلى ذلك يمكن أن تتم الببليوثيرابيا في مجموعات، وبذلك يتم العمل على تحسين مهارات التواصل الإجتماعي لدى المتعالج وتعزيز مشاركة القصة الذاتية مع الآخرين وتفهم مشاعرهم ووجهات نظرهم، أي ما يسمى بالتشاعر أو التقمص الوجداني (Empathy).  

فوائد العلاج متنوعة ومنوطة بأهداف العلاج نفسه، والعامة منها:  

  • تنمية الوعي والإدراك الذاتي (وذلك من خلال مشاطرة المشاعر والغوص في أعماق الشخصية).
  •  فهم الآخر – التشاعر- وذلك من خلال تفهم الأدوار المختلفة لشخصيات الكتاب وإسقاطها على الواقع.
  •  تعزيز التقدير الذاتي وتحفيز القدرة على التعبير عن المشاعر والأفكار. 
  • المساهمة بتحسين طرق التكيف مع المشاكل (أي تنمية مهارات حل المشاكل وتخفيض المشاعر السلبية مثل الخوف، الضغط والوحدة).

بخصوص الببليوثيرابيا عند الأطفال، فعالم القصة للطفل ثري جدًا .. إن كان من خلال قراءة قصة، تأليفها أو كتبتها. فهي تُشكل اداة امنة بواسطتها يستطيع الطفل اكتشاف جوانب عديدة من شخصيته. فقراءة القصص تساعد في تعزيز شخصية الطفل وتقوية ثقته بنفسه فمن خلالها يستطيع التضامن مع شخصيات تواجه نفس التحديات التي يواجهها، ومعارضة جوانب من هذه الشخصية أو غيرها بدون أن يمس بنفسه أو بشخص آخر يعرفه. 

وهي أيضًا تُستخدم بالمجال الطبي، عندنا نريد أن نشرح الحالة الطبية للطفل- مرضه والتوقعات منه والنتائج المترتبة على التشخيص الطبي (Goddard, 2011).

 حين يروي الطفل المُتعالج قصته عادة ما سيكون هو بطلها أو أن محور القصة سوف يكون حول موضوع يهمه. وهنا يأتي دور المُعالج بداية في اختيار قصة تلائم الحالة بمشاركة الطفل أو بتحفيز الحس الإبداعي عند الطفل في الإبتكار والتأليف، من ثم فتح حوار مع الطفل حول القصة، وسؤاله عن تضامنه أو امتعاضه من الشخصيات في القصة، وأي تغير يرغب بأن يحدث فيها… وبالإضافة إلى ذلك مع القليل من الإبداع، والإلمام بطرق العلاج الدرامية من الممكن أن يقوم الطفل والمُعالج بتمثيل القصة أو أجزاء منها ولعب لعبة “تبديل الأدوار”، بالطبع مع وجود حوار مستمر بينهم، هنا يجدر الإنتباه إلى أهمية وجود الحوار في العلاج، الذي نفتقده عادة مع الأطفال بالرغم من أهميته. 

كما أنه من أهم مميزات الببليوثيرابيا استخدام أسلوب الإستعارة (كقصص الحيوانات مثلا). بالتالي من خلال القصة يمكن للمُعالج أن يصل بطريقة ذكية وسلسة لمشكلة الطفل. والببليوثيرابيا تُعد من الطرق الناجعة لعلاج الأطفال لكون قسم جيد منهم يجدون صعوبة في التعبير شفويًا. فقد أثبت العلاج بالببليوثيرابيا نجاعته في علاج الأطفال الذين عانوا من فقدان شخص عزيز، أطفال مع مشاكل سلوكية، مشاكل عنف، اكتئاب طفيف، إساءة أو صعوبات عائلية (Berns, 2003).

ختامًا فإن كلمات الكاتب سعود السنعوسي تجسد بطريقة جميلة فضل الكتاب على النفس عامة، وليس فقط في حالة الإضطرابات النفسية أو التحديات التربوية والإجتماعية، الذي يقول:  “كلما شعرت بالحاجة إلى شخص يحدثني.. فتحتُ كتابًا”- ساق البامبو

————————————————————————————————————————

المصادر : 

  •  Berns, C. F. (2003). Bibliotherapy: Using books to help bereaved children.OMEGA–Journal of Death and Dying, 48(4), 321-336.
  • Goddard, A. T. (2011). Children’s books for use in bibliotherapy. Journal of Pediatric Health Care, 25(1), 57-61.
  • Pehrsson D, E &, McMillen, P. (2005). A Bibliotherapy Evaluation Tool: grounding counselors in the therapeutic use of literature .The Arts in Psychotherapy 32, 47-59. ‏
  •  خليفة شعبان عبد العزيز، العلاج بالقراءة أو الببليوثيرابيا، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، 2000.

One Response

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *